السيدة الحرة: حاكمة تطوان وأميرة الجهاد البحري
السيدة الحرة (1542-1485) هي الحاكمة والمدافعة عن مدينة تطوان، واحدة من أهم الزعيمات اللواتي عرفهنّ المغرب عبر تاريخه، عرفت بين أعدائها باسم "ملكة القراصنة"، ولقبها المغاربة بالحرة، عُرفت بالعلم والذكاء والحنكة السياسية قبل وأثناء حكمها مدينة تطوان.
فيما يلي سنتعرف على أهم الأحداث في حياة هذه الحاكمة المغربية.
النشأة
كانت حياة سيدة الحرة مرتبطة إلى حد كبير بأزمات عصرها، بدأت هذه الأحداث بشكل دراماتيكي في عام 1492 بطرد قوات فرديناند وإيزابيلا لعائلتها وجميع المسلمين واليهود من مدينتهم الحبيبة غرناطة في الأندلس (جنوب إسبانيا حاليًا)، وكان هذا الحدث إعلان نهاية ما يقارب ثمانية قرون من الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية.
دفع الطرد الأندلسيين إلى الاستقرار بالمراكز الحضارية الكبرى في شمال إفريقيا مثل فاس ووهران وتونس، وأشار المقري إلى أن آخرين "سكنوا البلدات والمناطق الصحراوية في البلاد، بما في ذلك تطوان وسلا وسهول بالقرب من الجزائر العاصمة".
و من بين موجة اللاجئين كان القائد مولاي علي بن راشد، وزوجته للا زهرة فرنانديز، مسيحية اعتنقت الإسلام، وابنه مولاي إبراهيم وابنته السيدة الحرة التي قد تكون ولدت في وقت ما بين 1485 و1495 وكانت تسمى عائشة حسب العديد من المصادر.
الراشد كانوا عشيرة نبيلة ادعت أنها سلالة من النبي محمد من خلال إدريس الأول مؤسس أول سلالة إسلامية في المغرب في القرن الثامن، بعد فترة وجيزة من نفي الأسرة من الأندلس، استقروا في جبال الريف جنوب شرق طنجة، حيث أسس مولاي علي بن راشد مدينة شفشاون بالقرب من الساحل الشمالي للمغرب.
كانت السيدة الحرة تتلقى تعليمًا من الدرجة الأولى، برعت في اللغات بما في ذلك القشتالية والبرتغالية، وكان من بين معلميها العالم المغربي الشهير عبد الله الغزواني. سهّل ذكاؤها حصولها على ثقافة واسعة ساعدتها في التعرف على كيفية إدارة الدولة ومواجهة الأعداء، ما ساعدها في دخول مجال السياسة الذي كان حكراً على الرجال.
شبابها وزواجها
- في عام 1510، خطت السيدة الحرة خطواتها الأولى بالزواج من أبو حسن المندري والي تطوان منذ عام 1505، على بعد حوالي 55 كيلومترًا شمال شفشاون وعند مصب نهر مرتيل، كانت تتواجد مدينة تطوان المحصنة بقاعدة تكتيكية للغارات البحرية ضد ميناء سبتة الشمالي والذي كان في أوقات مختلفة تحت سيطرة القوى الإسلامية المنافسة (النصرية) والمسيحية (البرتغالية).
- قال المؤرخ المغربي الحسن بن محمد الوزان، الذي عُرف لاحقًا باسم ليو أفريكانوس "ظلت المدينة [تطوان] مهجورة لمدة 80 عامًا، حتى قرر قائد في غرناطة استعادة المدينة".
- القائد الذي تكلم عنه محمد الوزان هو المنظري، أحد آخر المدافعين العسكريين عن غرناطة والأب المؤسس لتطوان الحديثة، وكتب الحسن: "أعطى المندري السلطة لإعادة المدينة وتحصيل الضرائب .. أعاد بناء أسوار المدينة، وبنى حصنًا وشن العديد من الحروب مع البرتغاليين، وغالبًا ما هاجم سبتة والقصر وطنجة"
- ولكن هناك خلاف بين المؤرخين حول ما إذا كان الرجل الذي تزوجته السيدة الحرة هو هذا المنظري بالذات أم أنه عضو آخر أصغر سناً في الأسرة التي تحمل الاسم نفسه.
- كان زواج السيدة الحرة مع المنظري خطوة حكيمة، بحيث حصلت الحرة على منصب الوصي المشارك على تطوان، وتم تعيين شقيقها مولاي إبراهيم وزيراً لسلطان فاس أحمد الوطاسي، وهكذا وضع آل راشد أنفسهم كلاعبين رئيسيين في الجهود المبذولة لتوحيد المغرب ضد القوى المتنامية بسرعة كإسبانيا والبرتغال، ولعب تعليمها وقوة شخصيتها وحضورها الذهني في تكوينها كزعيمة سياسية مستقلة عن إشراف الذكور وتوجيههم وموافقتهم.
قيادة مدينة تطوان
- توفي المنظري زوج الحرة، في وقت ما بين 1515 و1519، وأصبحت عائشة القائدة الوحيدة لتطوان وحكمت المدينة فعليًا لأكثر من أربعة قرون تقريباً.
- وخلال هذه الفترة وصلت المدينة إلى مستوى غير مسبوق من الازدهار كما كتب المؤرخ الإسباني جيرمان فازسكيز تشامورو في دراسته الأخيرة، موخيريس بيراتاس ( نساء قراصنة) (ادف انتيلاس، 2004)، وكان المصدر الأول للرواج الاقتصادي بالمدينة هو الهجمات على السفن الإسبانية والبرتغالية المحملة بالبضائع والذهب والكنوز الأخرى.
أميرة الجهاد البحري
- في عام 1488 طاف البرتغاليون حول الطرف الجنوبي من إفريقيا وأسسوا طريقهم البحري المباشر إلى شبه الجزيرة العربية والهند وجنوب شرق آسيا.
- كانت هذه المناورة مضرة لأرباح تجار شمال إفريقيا الذين عملوا لقرون كوسطاء بين أوروبا الغربية وآسيا.
- أنشأ البرتغاليون مستعمرات على طول السواحل الأفريقية وربطوها بالداخل.
- في الوقت نفسه تشبث الإسبان بعناد ببؤرهم الاستيطانية على طول ساحل شمال إفريقيا، الشيء الذي لم تستسغه الحاكمة الحرة بالإضافة إلى ذكرياتها السيئة مع الحكام الإسبان الذين طردوا عائلتها وآلاف المسلمين من الأندلس، وأرادت الثأر منهم عبر تشكيل جيش للجهاد البحري كان مرابطاً بمنطقة مرتيل القريبة من تطوان.
- تعاونت الحاكمة الحرة مع القائد بربروسا وسرعان ما سيطر الاثنان على مياه البحر الأبيض المتوسط، بحيث أغاروا على كل من السفن والبلدات وأسروا مسيحيين، وكانت القرصنة متفشية في القرن السادس عشر لم تقتصر بأي حال من الأحوال على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، إذ اعتاد القراصنة الإنجليز اعتراض السفن الإسبانية العائدة من الأمريكتين، وكان ما أخذوه بمثابة غنيمة ومصدرًا رئيسيًا للدخل للحكومة وللملكة إليزابيث الأولى.
- لم يكن المغرب يتوفر على قوة بحرية في زمن السيدة الحرة وكان يعتمد على الجهاد البحري للدفاع عن السواحل.
- كان العديد من هؤلاء المجاهدين من الأندلس الذين استقروا في أماكن مثل سلا وتطوان تحت قيادة سيدة الحرة، ساعدوها على صد الأيبيريين العدوانيين الذين كانوا يستعمرون مدن مغربية وفي بعض الأحيان يستعبدون معظم السكان، لذا كانت السيدة الحرة تفعل الشيء نفسه مع الأيبيريين للدفاع عن أرضها من القوى الاستعمارية العدوانية.
زواجها بالسلطان الوطاسي
اشتهر اسم السيدة الحرة محلياً ودولياً، الشيء الذي جعل السلطان أحمد الوطاسي يطلب يدها للزواج سنة 1541م لمساعدته في حشد الدعم لسلالته المحاصرة.
- قبلت السيدة الحرة طلب سلطان فاس، ولكنها رفضت السفر إلى فاس لحضور حفل الزفاف، وأصرت بدلاً من ذلك على أن يتم عقد القران في تطوان، وكانت هذه هي المرة الوحيدة في تاريخ المغرب التي يتزوج فيها سلطان خارج العاصمة.
- انتشرت أخبار الزفاف حتى مدريد وأزعجت فيليب الثاني ملك إسبانيا، لأن ذلك الزواج من شأنه تقوية العلاقة بين مجاهدي تطوان وشفشاون وبين السلطان فيتحدون ضده.
- تركها السلطان الوطاسي خليفة له على مدينة تطوان وعاد إلى عاصمته لتدبير أمور دولته، وهذا الأمر أكد أن خلفية الزواج كانت سياسية، لتقوية الدولة الوطاسية شمالاً خصوصاً بعد قيام الدولة السعدية بالجنوب والتي كانت تهدف إلى بسط سيطرتها على كامل تراب المغرب.
سقوط الحكم
- قوة حاكمة تطوان لم تبقَ دائمة، بحيث دفعت علاقتها السيئة مع البرتغاليين في سبتة حاكمها إلى قطع العلاقات مع تطوان وتوقف التبادل التجاري بين المدينتين عام 1542 وبالتالي تدهور الوضع الاقتصادي لمدينة تطوان، الشيء الذي جعل التجار المحليون ينتقدون مزاجها وطريقة تسييرها للمدينة.
- في غضون ذلك ومع معارضة كبار الرجال من عائلة المنظري وغيرهم تولّي السيدة الحرة حكم تطوان معتبرين أنهم أولى به، غادر السيد محمد الحسن المنظري(ابن القائد محمد المنظري) مدينة فاس شهر أكتوبر في العام 1542 هارباً من السلطان الوطاسي وتوجه نحو مدينة تطوان مركز حكم السيدة الحرة، فوصلها على رأس عدد كبير من الفرسان ومعه عائلته.
- وبعد يومين من وصوله إليها أعلن نفسه حاكماً على هذه المدينة مستقلاً عن سلطان فاس، ثم أخرج السيدة الحرة من هذه المدينة واستولى على جميع ممتلكاتها. قبلتقبلت الحرة مصيرها وتقاعدت في شفشاون، حيث عاشت قرابة 20 عامًا، حتى ماتت يوم 14 يوليو 1561.
لازالت السيدة الحرة حية في الكتب التاريخية وحتى في التراث الشفهي المغربي, بحيث يرجح البعض أنها أصل الأسطورة الشعبية عيشة قنديشة، وحيكت حولها العديد من القصص والأساطير حتى اختلطت حكايتها بالخيال، فنعتت بجنية البحار والوديان كما أنها ذُكرت في الكتب الأجنبية بالكونتيسة.
للإستفادة من هذا المقال انسخ الرابط
https://mafahem.com/sl_8752